العرب في اسرائيل، بين محنة حاضرة ونعمة مشتهاة - جواد بولس

 سأبدأ مقالتي بقصة كان قد رواها لي المهندس الزراعي الراحل عبد الرحمن النجاب ابن قرية جيبيا من قضاء رام الله قبيل رحيله عام 2018 .  كان عبد الرحمن النجاب من اوائل خريجي  مدرسة "خضوري" الزراعية وأحد أبرز الطلائعيين التقدميين في تطوير علم الزراعة في فلسطين منذ ثلاثينيات القرن الماضي وحتى وفاته عن عمر ناهز الخامسة والتسعين عامًا. والقصة تتحدث عن ضابط بريطاني كان مسؤولا في مدرسة "خضوري" زمن الانتداب البريطاني على فلسطين؛ كان يعمل لديه في القسم طبْاخ مصري. بلغ الضابط بان هذا الطباخ كان نمامًا وثرثارًا ويكثر من انتقاد الانكليز وممارساتهم ضد العرب. استدعى الضابط طباخه وبدل ان يعاقبه قرر نقله الى سلك الشرطة وراح يعجل في ترقياته الى ان بلغ رتبة شاويش وعندها قرر طرده من العمل. تساءل الناس وتعجبوا من موقف الضابط، فاجابهم : لو طردته وهو يعمل طباخًا لوجد بسهولة الفرصة ليعود الى مهنته كطباخ،  اما اليوم فلن يجد من يشغله شاويشًا، وفي نفس الوقت لن يرضى بالعودة للعمل طباخًا، فنفسه،  بعد ان ذاقت نعمة ان تكون شاويشا، ستأبى ان يعود الى المطابخ. انه خبث المستعمرين منذ مئات السنين وعلاقتهم برعاياهم وابقاؤها متوترة بين محنة حاضرة دومًا، ونعمة موهومة ومتأرجحة. فهل تغيرت احوالنا نحن اهل فلسطين عبر السنين؟  ربما !  

نشر قبل يومين نبأ افاد بان الجامعة العبرية تراجعت عن قرارها بتعليق عمل بروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان,  وموافقتها على عودتها لمزاولة كافة مهامها في الجامعة على الفور. وجاء القرار في اعقاب جلسة عقدت يوم الاربعاء الفائت بمشاركتها ومحاميها مع ادارة الجامعة العبرية ممثلة بعميدها بروفيسور "تمير شيفير".

لم ينل هذا الخبر في الاعلام العربي الاهتمام الجدير به؛ فاعلانه تم على موجة خافتة وخجولة وعلى طريقة البيانات الثورية المقتضية، علمًا بأن قضية البرفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان تحولت في الشهر الماضي الى قضية رأي عام ليس داخل اسرائيل وحسب، بل في محافل دولية عديدة . 

قد يكون السر وراء هذا التباين بين الضجة الكبيرة والمباركة التي واكبت عملية فضح موقف الجامعة العبرية في البداية، وبين الكشف، في النهاية، عن هذا الانتصار بوشوشة وادعة، قابعا في التنافر والتوتر الدائمين بين شعورين/ حالتين ما زال المواطن العربي في اسرائيل يعيش تحت وطأتهما وهما : الشعور بالمحنة والرغبة بالنعمة ؛ فمعظم المواطنين لا الاكاديميون وحسب يقضون لياليهم وهم يتأرجحون بين تينك المنزلتين، ويتخذون قراراتهم في النهاية، على الاغلب، وفقا لمصالحهم الشخصية. 

لقد بررت ادارة الجامعة، حينها، قرارها المذكور بحجة ادلاء المحاضرة نادرة شلهوب  بتصريحات تحريضية ضد اسرائيل التي ترتكب الجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية في غزة، وبأنها شككت بالادعاءات الاسرائيلية حول قتل الاطفال واغتصاب النساء خلال الهجمة التي نفذتها عناصر حركة حماس في السابع من اكتوبر المنصرم. حاولت ادارة الجامعة الدفاع عن قرارها وتمسكت به مؤكدة ان ما دفعها لاتخاذه ليست تصريحات ورأي نادرة شلهوب حيال الجرائم ضد الانسانية التي تنسبها لاسرائيل في غزة، ولا رأيها في قضية الابادة الجماعية، بل انكارها العلني لقضيتي قتل الاطفال واغتصاب النساء في السابع من اكتوبر وعدم وقوفها مع الضحايا. 

موقع "كان "بالعبري تطرق لقرار اعادة نادره شلهوب بخبر نشر مساء الاربعاء الفائت واكد فيه على ان ادارة الجامعة اتخذت هذا القرار بعد "أن اوضحت البروفيسور انها كباحثة نسوية نقدية تصدق اقوال جميع الضحايا ولا تشكك باقوالهن ، واوضحت كذلك انها لم تنكر حقيقة تنفيذ افعال الاغتصاب كجزء من هجمة حماس",  وعلى ضوء هذا التوضيح فقد تمت اعادتها الى صفوف الجامعة. بينما نشرت جريدة هآرتس في نفس اليوم خبرا مفاده "ان بروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان ستعود للتعليم بعد ان اوضحت انها لا تشكك بحقيقة وقوع اعتداءات جنسية في هجمة السابع من اكتوبر" . 

نحن نعرف مدى مصداقية الاخبار التي تنقلها وسائل الاعلام العبرية بشكل عام، لا سيما في هذه الايام، حيث نرى كيف تجندت معظم تلك الوسائل والمنصات الاخبارية كابواق دعائية رخيصة وخطيرة لنشر الاكاذيب وللتلفيق وللتغطية على الجرائم التي ترتكب في غزة وللتحريض على كل من يقف ضد الحرب ويطالب بايقافها الفوري. ولاننا نعرف هذه الحقيقة، ولاننا بصدد قضية ذات أبعاد واسقاطات عامة وهامة كانت استحوذت على اهتمام الرأي العام، كان من الضروري ان نسمع من بروفيسور نادرة شلهوب تفاصيل لقائها مع عميد الجامعة، فما نشر حوله كان تلغرافيا وترك مساحات للتأويل وللغصة .

لقد سمعت في البداية خبر اعادة البروفيسور نائلة شلهوب لعملها من صديق قابلته مساء الاربعاء الفائت. لاحظت انه كان غاضبًا لحظة وصوله الى لقائنا في احد مقاهي الناصرة؛ وعندما استفسرت منه عن سبب غضبه افادني بان مذيعا في احدى محطات الراديو العبرية كان يعلن نبأ اعادة المحاضرة العربية الى عملها في الجامعة العبرية متبجحًا انها اعتذرت عن اقوالها السابقة وتراجعت عنها امام عميد الجامعة. واضاف صديقي: اذا كان هذا الخبر صحيحًا فما قامت به  يعتبر تراجعًا عن موقفها المبدئي المحق، وصفعة في وجوه حملات التضامن والمتضامين، فالقضية وان كانت في البداية شخصية تبقى في النهاية قضية عامة.  

لم نعرف تفاصيل ما حدث في تلك الجلسة، لكننا لاحظنا بأن ما نقله موقع " كان" كان شبيها لما نقله بيان صدر باسم البروفيسور من جهة محاميها، مع  وجود بعض الفوارق والنواقص في المعلومات التي أدت الى نشر روايتين مختلفتين ومتناقضتين . فوفقا للرواية التي نقلتها المواقع العبرية فهمنا بان البروفيسور تراجعت عن انكارها لعمليات اغتصاب النساء في السابع من اكتوبر بطريقة رضيت بها ادارة الجامعة، بينما فهمنا من الرواية الثانية بان ذراع الجامعة قد لوي وانه تم الانتصار على قرارها الفاشي وذلك لان البروفيسور نادره شلهوب اكدت على مواقفها ازاء ما تقترفه إسرائيل في غزة وطالبت بعدم معاقبة الطلاب الذين آزروها واكدت كذلك على انها "كباحثة نسوية نقدية، على موقفها الاخلاقي والاكاديمي الذي يحرص على قبول روايات النساء ضحايا الاعتداءات الجنسية بغض النظر عن قومية النساء وجنسياته". وهو نص مشابه لما جاء في خبر موقع "كان" لكن سياقه في وقائع الجلسة بقي غير مؤكد فبقيت الحقيقة اسيرة عند من حضر وشهد الجلسة ورهينة عند من يجيد التأويل ومن يُعمل خياله. فهكذا نحن يا دنيا، نحيا، كعرب في الداخل، بين كر وفر ونمضي نحو غدنا المجهول.

طال النقاش بيننا فعرجنا خلاله على اوضاع الاكاديميين العرب في الدول العربية وعلى هوامشهم في التعبير عن ارائهم ومعارضة حكامهم المستبدين، وحاولنا ان نضع حدود معادلة حرية المواطن العربي في ابداء رأيه المعارض لسياسات الحكومة وممارساتها في السياق الاسرائيلي الراهن، والعلاقة بين ضرورة تمسك الفرد بموقفه المبدئي باسم الدفاع عن الرأي وعن حقوق مجتمعه، وبين اختياره للنجاة الشخصية واعتبارها انجازا ونصرا. ثم عدنا الى مواجع واقعنا ويقيننا بان هذه الحادثة سوف تنسى سريعا كما نسيت معظم قضايا الضحايا العرب الذين لم ينجحوا في اقناع مؤسساتهم باعادتهم للعمل بعد ان طردوا أو لم يرغبوا في السعي وراء ايجاد مخرج توافقي يتيح عودتهم الى امكنة عملهم. وضحكنا بوجع على قصة الطباخ المصري وخبث المستعمرين، وقلنا: هكذا نحن يا دنيا، عرب مثل باقي العرب، نعيش بين هاويتين : محنة حاضرة ونعمة مشتهاة ومتأرجحة، فلا يلومن احد ضحية تفتش عن نجاتها.