التقارب المصري التركي .. تكتيكي أم استراتيجي؟

ثمّة تقارب لا تخطئه العين بين مصر وتركيا. لم يبدأ الآن، وإنما يعود إلى سبتمبر/ أيلول الماضي، حين تبادل الطرفان إشاراتٍ لجسّ النبض بشأن إمكانية فتح حوار على المستويين، الأمني والاستراتيجي، لمعالجة بعض القضايا العالقة، مثل المسألة الليبية وملف غاز شرق المتوسط. وقد بدأ الحوار بالفعل على المستوى الاستخباراتي، حسب ما قرأنا في الأخبار لاحقاً، وتم عقد أكثر من جلسة ولقاء على مدار الشهور الماضية، كان أولها من خلال السفارتين المصرية والتركية في الجزائر. وقد صدرت تصريحاتٌ عديدة، خصوصا من الجانب التركي، على مدار الشهور الماضية، سواء من الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أو وزير خارجيته، مولود جاووش أوغلو، تؤشّر على الرغبة في تبريد العلاقات مع مصر وتقليل حجم التوتر والاحتقان بينهما.

وعلى الرغم من أن النظام المصري لم يبادل الجانب التركي اللغة والإشارات نفسها بشكل علني، إلا أن ثمّة تطورات لافتة، على ما يبدو، قد حدثت خلف الأبواب المغلقة منذ بداية العام الجاري، في العلاقة بين البلدين، ساعدت فيها التغيرات الإقليمية والدولية التي حدثت على مدار الأسابيع الماضية، فمن جهة أولى، ساعدت المصالحة الخليجية التي جرت في الخامس من يناير/ كانون الثاني الماضي في مدينة العلا السعودية، في تهدئة حالة الاستقطاب الإقليمي بشكل عام، وهو ما انعكس، بشكل أو بآخر، على سياسة المحاور التي تعيشها المنطقة منذ بداية الربيع العربي قبل حوالي عشر سنوات. ومن جهة أخرى، دفعت التحولات في البيت الأبيض دولاً كثيرة في المنطقة إلى ضرورة إعادة التموضع، وإعادة ترتيب الأولويات بشكلٍ يسمح بحدوث بعض التغيّرات في سياساتها ومواقفها الإقليمية.


 
دفعت التحولات في البيت الأبيض دولاً كثيرة في المنطقة إلى ضرورة إعادة التموضع، وإعادة ترتيب الأولويات

وقد اتضح التقارب المصري – التركي في ملفين مهمين خلال الأسابيع الماضية: الوضع السياسي في ليبيا، وغاز شرق المتوسط. فلم يكن للتسوية السياسية في ليبيا أن تنجح، وتخرج البلاد من “عنق الزجاجة” بدون وجود حد أدنى من التوافق المصري التركي حولها، خصوصا أن الطرفين كانا، وربما لا يزالان، يدعمان الطرفين الرئيسيين في الصراع، سواء جبهة اللواء متقاعد خليفة حفتر في شرق ليبيا، أو حكومة الوفاق السابقة بقيادة فايز السرّاج في طرابلس. لذا لم يكن مفاجئا أن يرحّب مسؤولو البلدين بالتطورات التي حدثت في ليبيا أخيرا، وهو ما انعكس إيجابيا على الصراع الأهلي الدائر هناك منذ أكثر من سبعة أعوام. وفي ما يخص ملف غاز شرق المتوسط، كانت القاهرة حريصةً على عدم الدخول على خط النزاع التركي – اليوناني حول التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط. وكذلك ما يخصّ ترسيم المناطق الاقتصادية الخاصة بين أنقرة وأثينا. وهو ما فهمته أنقرة باعتباره بادرة حسن نية من القاهرة، تُساهم في تعزيز مناخ الثقة بين الطرفين، وتدفع مسار العلاقات بين البلدين إلى الأمام. وإذا كانت المحادثات بين البلدين في البداية على المستوى الاستخباراتي، فقد انتقلت الآن كي تشمل ملفاتٍ أخرى اقتصادية وتجارية، وربما سياسية أيضا، فقد تواترت الأنباء عن طلب أنقرة، قبل عدة أيام، من القنوات المصرية المعارضة التي تبثّ من تركيا “ضبط” خطابها الإعلامي، والتقليل من جرعة الانتقادات التي يتم توجيهها للنظام المصري، وتحديداً للجنرال عبد الفتاح السيسي. وهو ما فسّره بعضهم دليلاً آخر على التقارب بين مصر وتركيا. في الوقت نفسه، يتم تداول أنباء غير مؤكدة عن زيارة قام بها رئيس جهاز الاستخبارات العامة المصرية، اللواء عباس كامل، لتركيا من أجل تنسيق ملف العلاقات الثنائية، والتباحث بشأن كيفية التعاطي مع ملف جماعة الإخوان المسلمين وقياداتها الموجودة في تركيا.


 
لم يكن للتسوية في ليبيا أن تنجح بدون حد أدنى من التوافق المصري التركي

وأيضا، يبدو أن التطورات في العلاقات المصرية – التركية ترتبط، بشكل أو بآخر، بحركة دبلوماسية قطرية نشطة لوحظت على مدار الأسابيع الماضية، تهدف إلى تحريك الملفات الإقليمية العالقة، بما يساعد في تقليل التوترات والخلافات في المنطقة، خصوصا بين الدول الكبرى، مثل مصر وتركيا. ولن يكون مفاجئا إذا ما كان هناك دور قطري ما في تذويب جليد العلاقات بين القاهرة وأنقرة، بما ساهم في دفعها إلى إحراز بعض التقدّم وبناء الثقة بين الطرفين، تمهيداً لاستعادة العلاقات الرسمية المنقطعة بينهما منذ أواخر عام 2013 بسبب تداعيات انقلاب “3 يوليو”.

بيد أن كل هذه التطورات لا تزال ضمن دائرة “جسّ النبض” بين البلدين. وهي، على الرغم من أهميتها وتطورها اللافت، لا تزال ضمن الإطار التكتيكي، وليس الاستراتيجي. بكلماتٍ أخرى، من المبكر الحديث عن حدوث تحوّل استراتيجي في مواقف كلا البلدين تجاه بعضهما بعضا، أو أن تطبيع العلاقات بين البلدين بشكل كامل قد بات قاب قوسين أو أدنى.